طوفان الأقصى- تحولات جذرية في عقيدة الأمن الإسرائيلية وتداعياتها الإقليمية.

المؤلف: د. محسن محمد صالح08.27.2025
طوفان الأقصى- تحولات جذرية في عقيدة الأمن الإسرائيلية وتداعياتها الإقليمية.

لقد زلزلت عملية طوفان الأقصى أركان النظرية الأمنية الإسرائيلية، موجّهةً ضربةً موجعةً للمبادئ التي تستند إليها، وعلى رأسها "الثالوث الأمني" الذي طالما استندت إليه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على مدار 75 عامًا، والذي يتمحور حول ثلاثة عناصر أساسية:

  1. الردع.
  2. الإنذار المبكر.
  3. الحسم (النصر السريع والكامل).

إلا أن الفشل كان ذريعًا في "ردع" حركة حماس، حيث لم تجدِ نفعًا السياسات السابقة القائمة على الحروب الخاطفة، ولا مساعي "التهدئة" المشروطة بالتهديد، ولا حتى محاولات الاحتواء.

كما فشل نظام الإنذار المبكر في استباق عملية طوفان الأقصى، على الرغم من حجمها الهائل ونطاقها الواسع، الذي غطى ما يقارب ضعف مساحة قطاع غزة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، والخسائر الفادحة التي ألحقتها في غضون ساعات قليلة (ما يقارب 1200 قتيل و250 أسيرًا)، لتكشف العملية عن "إخفاقات متراكمة" في المنظومة الأمنية. وعلاوة على ذلك، فإن العدوان على غزة لم يحقق الحسم السريع للمعركة، وما زالت فصولها تتوالى بعد مرور أكثر من 600 يوم من القتال، في ظل صمود المقاومة الفلسطينية.

المراجعات على النظرية الأمنية قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023

لقد شهدت النظرية الأمنية الإسرائيلية سلسلة من المراجعات و"التحسينات" على مر السنين، إلا أن مبادئها الأساسية ظلت قائمة ومعتمدة. كما استمرت بعض القواعد والأسس الإستراتيجية الأمنية حاضرة، مثل "تجييش الشعب"، وضمان التفوق والسيطرة، والضربات الاستباقية، والحدود الآمنة والمجال الحيوي، ونقل المعركة إلى أرض العدو، وضمان دعم القوى الكبرى، مع تعزيز الاعتماد على الذات.

وقد أخذت بعض المراجعات التي جرت في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين في الاعتبار عددًا من المتغيرات، مثل تغير أهمية الجغرافيا، وخطر الصواريخ والطائرات المسيرة، والأمن السيبراني، وحالة الثورات والاضطرابات في العالم العربي، و"تهديد" النمو السكاني الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، وأخطار نزع الشرعية، ومشاكل الوضع الداخلي الإسرائيلي، وتدهور جودة المقاتل الإسرائيلي، والعزوف عن تحمل أعباء الحروب.

وفي عام 2015، أُضيف مبدأ رابع إلى "الثالوث الأمني"، وهو مبدأ "الدفاع"، ليعكس الاهتمام بالدفاع الصاروخي ونظام القبة الحديدية، وبالسياج الحدودي وتعزيز حمايته.

وفي فترة "الربيع العربي"، تبنت القيادة الإسرائيلية إستراتيجية "الترقب والحفاظ على الحصن" في متابعة الأحداث التي عصفت بالمنطقة، إلا أنها عملت بنشاط "من تحت الطاولة"، وعبر الوكلاء والحلفاء، لإخماد هذا "الربيع".

التغيرات في النظرية الأمنية بعد عملية طوفان الأقصى

إذا ما استقرأنا السلوك السياسي والعسكري والأمني الإسرائيلي، وإذا ما تتبعنا نتائج مراكز البحث والتفكير في نقد وتطوير النظرية الأمنية الإسرائيلية، ولا سيما معهد مسجاف للأمن القومي (المقرّب من الحكومة)، ومعهد دراسات الأمن القومي INSS، ومعهد القدس للإستراتيجية والأمن JISS، فربما نستطيع (مع إدراكنا لوجود تباينات واختلافات بينها) أن نلخص التغيرات أو الاتجاهات العامة للتغيير في النقاط التالية:

1- التحول من الردع التقليدي إلى الردع الهجومي الاستباقي: وهذا يعني تحويل "إسرائيل" إلى دولة ذات طبيعة هجومية مستمرة، وإدارة حدودها ومجالها الحيوي (في البيئة الإستراتيجية المحيطة) باستخدام القوة المفرطة؛ والتخلي عن "الردع بالتهديد" إلى "الردع بالتدمير الشامل"، والتخلي عن سياسة "شراء الهدوء" و"إدارة الصراع" في إطار الاحتواء التقليدي، لصالح التوسع في مفهوم الأمن ليشمل "المنع"؛ أي منع الخصوم والأعداء من شن الهجمات؛ وبالتالي، التركيز على مفهوم "إضعاف القدرات" Emasculation، حيث يتم تحييد قدرات الآخرين بشكل كامل قبل أن يتمكنوا من تطوير إمكانات تشكل خطرًا على دولة الاحتلال.

وهذا يعني أن "إسرائيل" تسعى، في سعيها لفرض هيمنتها على المنطقة، إلى الانتقال من "الهيمنة الناعمة" المبطنة إلى "الهيمنة الخشنة" العلنية، التي لا تكترث بإظهار وجهها العدواني الحقيقي، ولا بانتهاك سيادة الدول المجاورة، ولا حتى بـ"إحراج" أو إذلال حلفائها وشركائها في دول التطبيع.

2- تعزيز إستراتيجية الإنذار المبكر: من خلال إعادة تقييم شاملة لأداء أجهزة الاستخبارات (الموساد، وأمان، والشين بيت)، وتطوير نماذج إنذار جديدة، تأخذ في الحسبان المنظمات والجهات غير الحكومية، وتحديد المؤشرات الدالة على المخاطر الأمنية المحتملة.

كما برزت الحاجة إلى إعادة التركيز وبقوة على الاستخبارات والقدرات البشرية Human Intelligence، وذلك بعد أن أثبتت الاستخبارات التقنية قصورها وعجزها، بعد الاعتماد المفرط عليها في السنوات الماضية، وضرورة إحداث توازن حقيقي بين التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك (الأمن السيبراني، وأدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة)، وبين الأداء البشري الميداني.

3- تعزيز القدرات البشرية والمادية للجيش الإسرائيلي: وزيادة قدرته على الانتشار السريع، وخوض الحروب على عدة جبهات في وقت واحد: حيث كانت الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تعتمد في السابق على وجود جيش محدود العدد (حوالي 170 ألف جندي) يتميز بالكفاءة العالية والمرونة التكتيكية، مع خفض التكاليف قدر الإمكان، ووجود احتياطي كبير (نحو 470 ألف جندي) قادر على الانضمام السريع والفعال عند الحاجة.

بينما يتجه التفكير حاليًا، وبعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول، نحو بناء جيش أكبر حجما وميزانية أكبر، ونحو التوسع في التجنيد الإجباري ليشمل حتى الأوساط التي كان يتم التغاضي عنها في السابق، مثل اليهود المتدينين "الحريديم"؛ وذلك لتلبية احتياجات الجيش المتزايدة في التوسع والهيمنة الإقليمية، وخوض الحروب الطويلة والمتعددة الجبهات. وبهذا يتم تفعيل فكرة "تجييش الشعب" أو "الجيش الذي له دولة" بشكل أوسع وأشمل!!

4- التوجه نحو الاستعداد لخوض حرب طويلة الأمد: في ضوء الفشل الذريع لمبدأ "الحسم" السريع، الذي كان يمثل ركنًا أساسيًا في "الثالوث الأمني" منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي.

وكان الجيش الإسرائيلي، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، قد خفف من حدة تعامله مع التنظيمات وفصائل المقاومة، ولأسباب عملية، وتراجع عن فكرة "النصر المطلق" لصالح فكرة "النصر الكافي"، بما يضمن فترات من "الهدوء" النسبي والاحتواء المانع للتهديد قدر الإمكان.

غير أن معركة طوفان الأقصى، وما تلاها من حرب طويلة الأمد، وقوة أداء المقاومة الفلسطينية، دفعت باتجاه الاستعداد لخوض حرب طويلة الأمد، لكنها أعادت في الوقت نفسه إحياء فكرة الحسم أو النصر المطلق، بغض النظر عن المدة الزمنية التي قد تستغرقها.

5- تعزيز الضربات الاستباقية: وتوسيع دائرة الاغتيال المستهدف للقيادات والكوادر الفلسطينية؛ والتساهل بشكل ملحوظ في الضوابط والاعتبارات السياسية والأمنية والأخلاقية التي كانت تحد من ذلك.

6- تقوية النفوذ والهيمنة الإقليمية: من خلال فرض خريطة أمنية جديدة على المنطقة بأسرها، وفرض مناطق عازلة (كما هو الحال في لبنان وسوريا…)، وتفعيل التحالفات مع دول التطبيع لتنفيذ أجندات أمنية تخدم المصالح الإسرائيلية، والظهور بشكل سافر وعلني كـ"شرطي للمنطقة"، وكـ"عصا غليظة" مسلطة فوق رؤوس الجميع.

وكان بنيامين نتنياهو قد كرر مرارًا وتكرارًا فكرة الهيمنة و"تغيير وجه الشرق الأوسط"، وتحقيق "الازدهار من خلال القوة الغاشمة".

إذ ترى القيادة الإسرائيلية أن حسم الملف الفلسطيني والقضاء على قوى المقاومة الفلسطينية، لا يمكن تحقيقهما إلا من خلال تغيير الواقع الأمني في المنطقة بأكملها، وخنق البيئة التي تتنفس منها المقاومة؛ وذلك لضمان الأمن المستقبلي للأجيال الصهيونية في فلسطين المحتلة.

7- التركيز المتزايد على الأمن الداخلي: من خلال السعي الجاد لبناء "حصانة وطنية" شاملة، والاستعداد الأمثل لمواجهة الصدمات المستقبلية المحتملة، وتعبئة المجتمع الصهيوني وتعزيز قدرته على التكيف مع الظروف المتغيرة، خاصة في ظل تزايد الأخطار الناجمة عن الضربات الصاروخية وعمليات الاختراق الحدودي؛ وفي ظل تزايد الرغبة المتنامية في الهجرة المعاكسة لدى المجتمع الاستيطاني اليهودي، بسبب تردي الأوضاع الأمنية.

ويندرج تحت هذا البند أيضًا مواجهة ما يسمى "التهديد السكاني الفلسطيني"، وذلك بعد أن تجاوزت أعداد الفلسطينيين أعداد اليهود في فلسطين التاريخية؛ وبالتالي، إدراج ملفات الضم والتهجير القسري وإيجاد البيئات الطاردة لهم في صلب الأجندة الإسرائيلية.

8- تحقيق التوازن والتوفيق بين الاعتماد على الذات والاعتماد على الحلفاء الاستراتيجيين: فعلى الرغم من التطور الهائل الذي شهدته الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وصعودها إلى مصاف كبار مصدري الأسلحة وتقنيات التجسس في العالم، وعلى الرغم من الجهود المتواصلة للوصول إلى فكرة "الاعتماد على الذات" الكامل، وتحقيق تفوق ساحق على جميع الدول في البيئة الإستراتيجية المحيطة، فإن هذا المفهوم قد اهتز بشدة في معركة طوفان الأقصى؛ حيث تبين أنه غير كاف لتحقيق النصر المنشود.

كما تجلت الحاجة الماسة لوجود حلفاء استراتيجيين كبار دائمين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، التي ظهرت الحاجة الماسة إليها في التزويد بالأسلحة النوعية المتطورة، وفي مواجهة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، ومواجهة إيران، وفي توفير الدفاعات المضادة للصواريخ، وفي توفير الغطاء السياسي والأمني والإعلامي الدولي، وممارسة الضغوط على دول المنطقة.

9- تحقيق الردع النفسي و"كي الوعي": وذلك بأبشع وأقسى صوره، من خلال المجازر وعمليات الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في غزة، والتهجير والتجويع والتدمير الممنهج، وذلك لترسيخ الخوف من الاحتلال الإسرائيلي في الوعي الجمعي، وتثبيط أي تفكير في المقاومة.

كما أثبت مفهوم "السياج الذكي" المتعلق بالدفاعات الحدودية وتأمين المستوطنات المحيطة، أنه لم يكن كافيًا لردع الخطر، وبالتالي يجب تعزيز الدفاعات البشرية والمادية، وإنشاء "الحرس الوطني" للتعامل الفعال مع المخاطر المحتملة.

انعكاسات التغير في النظرية الأمنية على البيئة الإقليمية

بناءً على ما سبق، فإن التغيرات الجذرية في النظرية الأمنية الإسرائيلية ستنعكس بشكل مباشر على شكل السلوك والسياسات الإسرائيلية في البيئة الإقليمية، والتي ستتسم بقدر أكبر من العدوانية والتوسع، وتتمثل هذه الانعكاسات فيما يلي:

  1. توسيع نطاق العمل العسكري والأمني الإسرائيلي على المستوى الإقليمي، وشن مساعي حثيثة لفرض حالة هيمنة سافرة ومكشوفة في منطقة الشرق الأوسط بأسرها.
  2. التقليل من شأن مفهوم السيادة الوطنية لدى عدد كبير من دول المنطقة، وخاصة في دول الجوار كسوريا ولبنان.
  3. ممارسة المزيد من الضغوط الهائلة على الأنظمة الحاكمة لتنفيذ أجندات أمنية محددة والالتزام التام بالمعايير الإسرائيلية، وذلك بحجة كاذبة هي محاربة الإرهاب، وبالتالي فرض المزيد من القيود والقمع للحريات الأساسية، وقمع الاتجاهات الشعبية الداعمة للمقاومة الفلسطينية ونصرة قضيتها العادلة، وتضييق الخناق على تيارات "الإسلام السياسي" والقوى الوطنية والقومية الرافضة للمشروع الصهيوني، ومواجهة كافة مشاريع النهضة والوحدة العربية.

كما يهدف الكيان الصهيوني إلى الضغط على أنظمة المنطقة لدفعها قسرًا نحو "أمننة" الحياة المدنية، من خلال فرض النموذج الإسرائيلي القائم على التعامل مع كل تهديد سياسي أو شعبي على أنه "قضية أمنية"، مما يؤدي حتمًا إلى تآكل حقوق الإنسان، وتغول أجهزة المخابرات وقمع الحريات.

في المقابل، فإن السلوك الإسرائيلي المتعجرف قد يؤدي إلى:

  1. أن تلجأ بعض الدول الكبيرة والمؤثرة في المنطقة إلى اتخاذ إجراءات لحماية أمنها القومي، والدخول بالتالي في سباق تسلح محموم مع "إسرائيل".
  2. غير أن الجانب الأهم، هو أن هذا السلوك الإسرائيلي الاستعلائي المتعجرف، عندما يتعامل بفوقية مع بيئة عربية وإسلامية أصيلة، ويحاول فرض سيطرته الغاشمة المباشرة على شعوب عريقة تعتز بدينها الحنيف وتراثها المجيد وتاريخها العريق وهويتها الحضارية الراسخة؛ فإنه بذلك يقوم فعليًا بتوسيع دائرة الصراع والمواجهة والتحدي ضده، وتكريس حالة السخط والغضب المتنامي في البيئة الإستراتيجية، ويساهم بشكل فعال في تسريع قيام "ربيع عربي" جديد تكون إسرائيل، ومعها الأنظمة المتحالفة معها، الخاسر الأكبر فيه.
  3. سيواجه الكيان الصهيوني، في سبيل تحقيق أهدافه ونشر نظريته الأمنية الجديدة، حالة من فرط التمدد Overextension، وهو ما قد يتسبب له في حالة من الإنهاك الشديد والمتزايد، الذي يفوق طاقاته وقدراته المتاحة، وهو أحد المؤشرات الهامة على تراجع الدول وسقوطها عبر التاريخ.

وأخيرًا، فإنه توجد فجوة شاسعة بين ما يطمح إليه الاحتلال الإسرائيلي، وبين ما يستطيع فعليًا تنفيذه على أرض الواقع، وما زالت الأمة الإسلامية وشعوبها الأصيلة تتمتع بإمكانات هائلة وطاقات كامنة، قادرة على مواجهة المشروع الصهيوني الخبيث ودحره عن أرضنا المقدسة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة